فصل: تفسير الآيات رقم (66 - 69)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏63 - 65‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ‏}‏

يقول تعالى ممتنا على عباده في إنجائه المضطرين منهم ‏{‏مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ‏}‏ أي‏:‏ الحائرين الواقعين في المهامه البرية، وفي اللجج البحرية إذا هاجت الريح العاصفة، فحينئذ يفردون الدعاء له وحده لا شريك له، كما قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ ‏[‏فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا‏]‏‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 67‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 63‏]‏‏.‏

وقال في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً‏}‏ أي‏:‏ جهرا وسرا ‏{‏لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ‏}‏ أي‏:‏ من هذه الضائقة ‏{‏لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ بعدها، قال الله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ بعد ذلك ‏{‏تُشْرِكُونَ‏}‏ أي‏:‏ تدعون معه في حال الرفاهية آلهة أخرى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ لما قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ‏}‏ عقبه بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا ‏[‏مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏]‏‏}‏ أي‏:‏ بعد إنجائه إياكم، كما قال في سورة سبحان‏:‏ ‏{‏رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 66 -69‏]‏‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ ذكر عن مسلم بن إبراهيم، حدثنا هارون الأعور، عن جعفر بن سليمان، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ هذه للمشركين‏.‏

وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد ‏[‏في قوله‏]‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فعفا عنهم‏.‏

ونذكر هنا الأحاديث الواردة في ذلك والآثار، وبالله المستعان، وعليه التكلان، وبه الثقة‏.‏

قال البخاري، رحمه الله، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ‏}‏ يلبسكم‏:‏ يخلطكم، من الالتباس، يَلْبِسوا‏:‏ يَخْلطُوا‏.‏ شيعًا‏:‏ فرقًا‏.‏

حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أعوذ بوجهك‏"‏‏.‏ ‏{‏أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏أعوذ بوجهك‏"‏‏.‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏هذه أهون -أو قال‏:‏ هذا أيسر‏"‏‏.‏

وهكذا رواه أيضا في ‏"‏كتاب التوحيد‏"‏ عن قتيبة، عن حماد، به‏.‏ ورواه النسائي ‏[‏أيضا‏]‏ في ‏"‏التفسير‏"‏، عن قتيبة، ومحمد بن النضر بن مساور، ويحيى بن حبيب بن عربي أربعتهم، عن حماد بن زيد، به‏.‏

وقد رواه الحميدي في مسنده، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، سمع جابرًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، به‏.‏

ورواه ابن حبان في صحيحه، عن أبي يعلى الموصلي، عن أبي خيثمة، عن سفيان بن عيينة، به‏.‏

ورواه ابن جرير في تفسيره عن أحمد بن الوليد القرشي وسعيد بن الربيع، وسفيان بن وَكِيع، كلهم عن سفيان بن عيينة، به‏.‏

ورواه أبو بكر بن مَرْدُوَيه، من حديث آدم بن أبي إياس، ويحيى بن عبد الحميد، وعاصم بن علي، عن سفيان بن عيينة، به‏.‏

ورواه سعيد بن منصور، عن حماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، كلاهما عن عمرو بن دينار، به‏.‏

طريق أخرى‏:‏ قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسيره‏:‏ حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا مقدام ابن داود، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا بن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن أبي الزبير، عن جابر قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أعوذ بالله من ذلك‏"‏ ‏{‏أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أعوذ بالله من ذلك‏"‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏هذا أيسر‏"‏، ولو استعاذه لأعاذه ويتعلق بهذه الآية ‏[‏الكريمة‏]‏ أحاديث كثيرة‏:‏

أحدها‏:‏ قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده‏:‏ حدثنا أبو اليمان، حدثنا أبو بكر -هو ابن أبي مريم -عن راشد -هو ابن سعد المقرئي -عن سعد بن أبي وقاص ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ فقال‏:‏ ‏"‏أما إنها كائنة، ولم يأت تأويلها بعد‏"‏‏.‏

وأخرجه الترمذي، عن الحسن بن عرفة، عن إسماعيل بن عياش، عن أبي بكر بن أبي مريم، به ثم قال‏:‏ هذا حديث غريب‏.‏ ‏[‏جدا‏]‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يعلى -هو ابن عبيد -حدثنا عثمان بن حكيم، عن عامر ابن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال‏:‏ أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى مررنا على مسجد بني معاوية، فدخل فصلى ركعتين، فصلينا معه، فناجى ربه، عَزَّ وجل، طويلا قال سألت ربي ثلاثا ‏"‏سألته ألا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها وسألته ألا يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها‏.‏ وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها‏"‏‏.‏ انفرد بإخراجه مسلم، فرواه في ‏"‏كتاب الفتن‏"‏ عن أبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله ابن نمير، كلاهما عن عبد الله بن نمير -وعن محمد بن يحيى بن أبي عمر، عن مروان بن معاوية، كلاهما عن عثمان بن حكيم، به

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ قرأت على عبد الرحمن بن مَهْدِيّ، عن مالك، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك، عن جابر بن عتيك؛ أنه قال‏:‏ جاءنا عبد الله بن عمر في بني معاوية -قرية من قرى الأنصار -فقال لي‏:‏ هل تدري أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدكم هذا‏؟‏ فقلت‏:‏ نعم‏.‏ فأشرت إلى ناحية منه، فقال‏:‏ هل تدري ما الثلاث التي دعا بِهِنّ فيه‏؟‏ فقلت‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ وأخبرني بهن، فقلت دعا ألا يُظْهِر عليهم عدوا من غيرهم، ولا يهلكهم بالسنين، فَأُعْطِيْهِمَا، ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم، فَمُنِعَهَا‏.‏ قال‏:‏ صدقت، فلا يزال الهرج إلى يوم القيامة‏"‏ ليس هو في شيء من الكتب الستة، وإسناده جيد قوي، ولله الحمد والمنة‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال محمد بن إسحاق، عن حكيم بن حكيم بن عباد عن حُنَيف عن علي بن عبد الرحمن، أخبرني حذيفة بن اليمان قال‏:‏ خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حرة بني معاوية، قال‏:‏ فصلى ثماني ركعات، فأطال فيهن، ثم التفت إليّ فقال‏:‏ حبستك‏؟‏ قلت الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ إني سألت الله ثلاثًا، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة‏.‏ سألته ألا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم، فأعطاني وسألته ألا يهلكهم بغرق، فأعطاني‏.‏ وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعني‏"‏‏.‏ رواه ابن مَرْدُوَيه من حديث ابن إسحاق‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبيدة بن حميد، حدثني سليمان الأعمش، عن رجاء الأنصاري، عن عبد الله بن شداد، عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، قال‏:‏ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلبه فقيل لي‏:‏ خرج قَبْلُ‏.‏ قال‏:‏ فجعلت لا أمر بأحد إلا قال‏:‏ مر قبل‏.‏ حتى مررت فوجدته قائما يصلي‏.‏ قال‏:‏ فجئت حتى قمت خلفه، قال‏:‏ فأطال الصلاة، فلما قضى صلاته قلت‏:‏ يا رسول الله، لقد صليت صلاة طويلة‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إني صليت صلاة رغبة ورهبة، سألت الله، عَزَّ وجل، ثلاثا فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة‏.‏ سألته ألا يهلك أمتي غرقا، فأعطاني وسألته ألا يُظْهِر عليهم عدوا ليس منهم، فأعطانيها‏.‏ وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم، فردها علي‏"‏‏.‏

ورواه ابن ماجه في ‏"‏الفتن‏"‏ عن محمد بن عبد الله بن نمير، وعلي بن محمد، كلاهما عن أبي معاوية، عن الأعمش، بهورواه ابن مَرْدُوَيه من حديث أبي عَوَانة، عن عبد الله بن عُمَيْر، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله أو نحوه‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هارون بن معروف، حدثنا عبد الله بن وَهْب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بُكَيْر بن الأشج، أن الضحاك بن عبد الله القرشي حدثه، عن أنس بن مالك أنه قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر صلى سُبْحَة الضحى ثماني ركعات‏.‏ فلما انصرف قال‏:‏ ‏"‏إني صليت صلاة رغبة ورهبة، سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة‏:‏ سألته ألا يبتلي أمتي بالسنين، ففعل‏.‏ وسألته ألا يظهر عليهم عدوهم، ففعل‏.‏ وسألته ألا يَلْبِسَهُم شيعًا، فأبى عليّ‏"‏‏.‏ رواه النسائي في الصلاة، عن محمد بن سلمة، عن ابن وهب، به‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب بن أبي حمزة، قال‏:‏ قال الزهري‏:‏ حدثني عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن عبد الله بن خباب، عن أبيه خباب بن الأرت -مولى بني زهرة، وكان قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -أنه قال‏:‏ راقبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة صلاها كلها، حتى كان مع الفجر فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته، قلت يا رسول الله، لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت مثلها‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أجل، إنها صلاة رَغَب ورَهَب‏.‏ سألت ربي، عَزَّ وجل، فيها ثلاث خصال، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة‏:‏ سألت ربي، عَزَّ وجل، ألا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا، فأعطانيها‏.‏ وسألت ربي، عَزَّ وجل، ألا يظهر علينا عدوا من غيرنا، فأعطانيها‏.‏ وسألت ربي، عَزَّ وجل، ألا يلبسنا شيعًا، فمنعنيها‏"‏‏.‏

ورواه النسائي من حديث شعيب بن أبي حمزة، به ومن وجه آخر‏.‏ وابن حبان في صحيحه، بإسناديهما عن صالح بن كيسان -والترمذي في ‏"‏الفتن‏"‏ من حديث النعمان بن راشد -كلاهما عن الزهري، به وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال أبو جعفر بن جرير في تفسيره‏:‏ حدثني زياد بن عبيد الله المزني، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا أبو مالك، حدثني نافع بن خالد الخزاعي، عن أبيه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود، فقال‏:‏ ‏"‏قد كانت صلاة رَغْبَة ورَهْبَة، سألت الله، عَزَّ وجل، فيها ثلاثا، أعطاني اثنتين ومنعني واحدة‏.‏ سألت الله ألا يصيبكم بعذاب أصاب به من قبلكم، فأعطانيها‏.‏ وسألت الله ألا يسلط عليكم عدوا يستبيح بيضتكم، فأعطانيها‏.‏ وسألته ألا يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض فمنعنيها‏"‏‏.‏ قال أبو مالك‏:‏ فقلت له‏:‏ أبوك سمع هذا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، سمعته يحدث بها القوم أنه سمعها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق قال‏:‏ قال مَعْمَر، أخبرني أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أبي أسماء الرَّحْبي، عن شداد بن أوْس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الله زَوَى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإن مُلْك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها، وإني أعطيت الكنزين الأبيض والأحمر، وإني سألت ربي، عَزَّ وجل، ألا يهلك أمتي بسنَة بعامة وألا يسلط عليهم عدوّا فيهلكهم بعامة، وألا يلبسهم شيعا، وألا يذيق بعضهم بأس بعض‏.‏ فقال‏:‏ يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد‏.‏ وإني قد أعطيتك لأمتك ألا أهلكتهم بسنة بعامة، وألا أسلط عليهم عدوا ممن سواهم فيهلكهم بعامة، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، وبعضهم يقتل بعضا، وبعضهم يسبي بعضا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏وإني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين، فإذا وضع السيف في أمتي، لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة‏"‏ ليس في شيء من الكتب الستة، وإسناده جيد قوي، وقد رواه ابن مَرْدُوَيه من حديث حماد ابن زيد، وعباد بن منصور، وقتادة، ثلاثتهم عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثَوْبان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه فالله أعلم‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه‏:‏ حدثنا عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم الهاشمي وميمون بن إسحاق بن الحسن الحنفي قالا حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا محمد بن فضيل، عن أبي مالك الأشجعي، عن نافع بن خالد الخزاعي، عن أبيه قال -وكان أبوه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أصحاب الشجرة -‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى والناس حوله، صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود‏.‏ قال‏:‏ فجلس يوما فأطال الجلوس حتى أومأ بعضنا إلى بعض‏:‏ أن اسكتوا، إنه ينزل عليه‏.‏ فلما فرغ قال له بعض القوم‏:‏ يا رسول الله، لقد أطلت الجلوس حتى أومأ بعضنا إلى بعض‏:‏ إنه ينزل عليك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏لا ولكنها كانت صلاة رَغْبة ورهبة، سألت الله فيها ثلاثا فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة‏.‏ سألت الله ألا يعذبكم بعذاب عذب به من كان قبلكم، فأعطانيها‏.‏ ألا يسلط على أمتي عدوا يستبيحها، فأعطانيها‏.‏ وسألته ألا يَلْبسَكم شِيعًا وألا يذيق بعضكم بأس بعض، فمنعنيها‏"‏، قال‏:‏ قلت له‏:‏ أبوك سمعها من رسول الله صلى الله عليه‏؟‏ قال‏:‏ نعم، سمعته يقول‏:‏ إنه سمعها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدد أصابعي هذه، عشر أصابع حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يونس -هو ابن محمد المؤدب -حدثنا ليث -هو ابن سعد عن أبي وهب الخولاني، عن رجل قد سماه، عن أبي بَصْرَة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏سألت ربي، عَزَّ وجل، أربعًا فأعطاني ثلاثًا، ومنعني واحدة‏.‏ سألت الله ألا يجمع أمتي على ضلالة، فأعطانيها‏.‏ وسألت الله ألا يظهر عليهم عدوا من غيرهم، فأعطانيها‏.‏ وسألت الله ألا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم قبلهم، فأعطانيها‏.‏ وسألت الله، عَزَّ وجل، ألا يلبسهم شيعا وألا يذيق بعضهم بأس بعض، فمنعنيها‏"‏ لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الطبراني‏:‏ حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا منجاب بن الحارث، حدثنا أبو حذيفة الثعلبي، عن زياد بن عِلاقة، عن جابر بن سَمُرَة السَّوَائي، عن علي ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏سألت ربي ثلاث خصال فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، فقلت‏:‏ يا رب، لا تهلك أمتي جوعا فقال‏:‏ هذه لك‏.‏ قلت‏:‏ يا رب، لا تسلط عليهم عدوا من غيرهم -يعني أهل الشرك -فيجتاحهم‏.‏ قال ذلك لك قلت‏:‏ يا رب، لا تجعل بأسهم بينهم‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فمنعني هذه‏"‏

حديث آخر‏:‏ قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه‏:‏ حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد بن عاصم، حدثنا أبو الدرداء المروزي، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان، حدثني أبي، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏دعوت ربي، عَزَّ وجل، أن يرفع عن أمتي أربعًا، فرفع الله عنهم اثنتين، وأبى عليّ أن يرفع عنهم اثنتين‏.‏ دعوت ربي أن يرفع الرجم من السماء، والغرق من الأرض، وألا يلبسهم شيعًا، وألا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع الله عنهم الرجم من السماء، والغرق من الأرض، وأبى الله أن يرفع اثنتين‏:‏ القتل، والهَرج‏"‏‏.‏

طريق أخرى عن ابن عباس أيضا‏:‏ قال ابن مَرْدُوَيه‏:‏ حدثني عبد الله بن محمد بن زيد حدثني الوليد بن أبان، حدثنا جعفر بن منير، حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد، حدثنا عمرو بن قيس، عن رجل، عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ قال‏:‏ فقام النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ، ثم قال‏:‏ ‏"‏اللهم لا ترسل على أمتي عذابًا من فوقهم، ولا من تحت أرجلهم، ولا تلبسهم شيعا، ولا تذق بعضهم بأس بعض‏"‏ قال‏:‏ فأتاه جبريل فقال‏:‏ يا محمد، إن الله قد أجار أمتك أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال ابن مَرْدُوَيه‏:‏ حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله البزار، حدثنا عبد الله بن أحمد بن موسى، حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد، حدثنا عمرو بن محمد العَنْقَزِي، حدثنا أسباط، عن السُّدِّي، عن أبي المِنْهَال، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏سألت ربي لأمتي أربع خصال، فأعطاني ثلاثًا ومنعني واحدة‏.‏ سألته ألا تكفر أمتي واحدة، فأعطانيها‏.‏ وسألته ألا يعذبهم بما عذب به الأمم قبلهم، فأعطانيها‏.‏ وسألته ألا يظهر عليهم عدوًا من غيرهم، فأعطانيها‏.‏ وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها‏"‏‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد بن يحيى بن سعيد القطَّان، عن عمرو بن محمد العنقزي، به نحوه

طريق أخرى‏:‏ وقال ابن مَرْدُوَيه‏:‏ حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا أبو كُرَيب، حدثنا زيد بن الحُباب، حدثنا كثير بن زيد الليثي المدني، حدثني الوليد بن رباح مولى آل أبي ذُبَاب، سمع أبا هريرة يقول‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏سألت ربي ثلاثا، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة‏.‏ سألته ألا يسلط على أمتي عدوًا من غيرهم فأعطاني‏.‏ وسألته ألا يهلكهم بالسنين، فأعطاني‏.‏ وسألته ألا يلبسهم شيعا وألا يذيق بعضهم بأس بعض، فمنعني‏"‏‏.‏ ثم رواه ابن مَرْدُوَيه بإسناده عن سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه‏.‏ ورواه البزار من طريق عمر بن سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه‏.‏

أثر آخر‏:‏ قال سفيان، الثوري عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال‏:‏ أربعة من هذه الأمة‏:‏ قد مضت ثنتان، وبقيت ثنتان‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ الرجم‏.‏ ‏{‏أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ الخسف‏.‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ قال سفيان‏:‏ يعني‏:‏ الرجم والخسف‏.‏

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ قال‏:‏ فهي أربع خلال، منها ثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، أُلبِسوا شيعًا، وذاق بعضهم بأس بعض، وبقيت اثنتان لا بد منهما واقعتان الرجم والخسف‏.‏ورواه أحمد، عن وَكِيع، عن أبي جعفر‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا المنذر بن شاذان، حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو الأشهب، عن الحسن، في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ ‏[‏عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا‏]‏‏}‏ الآية، قال‏:‏ حبست عقوبتها حتى عمل ذنبها، فلما عمل ذنبها أرسلت عقوبتها‏.‏

وهكذا قال سعيد بن جُبَيْر، وأبو مالك ومجاهد، والسُّدِّي وابن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ الرجم‏.‏ ‏{‏أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ الخسف‏.‏ وهذا هو اختيار ابن جرير‏.‏

ورواه ابن جرير، عن يونس، عن ابن وَهْب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ كان عبد الله بن مسعود ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ يصيح وهو في المجلس -أو على المنبر -يقول‏:‏ ألا أيها الناس، إنه قد نزل بكم‏.‏

إن الله يقول‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ‏[‏أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏]‏‏}‏ لو جاءكم عذاب من السماء، لم يبق منكم أحدا ‏{‏أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ لو خسف بكم الأرض أهلككم، لم يبق منكم أحدا ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ ألا إنه نزل بكم أسوأ الثلاث‏.‏

قول ثان‏:‏ قال ابن جرير وابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وَهْب، سمعت خلاد بن سليمان يقول‏:‏ سمعت عامر بن عبد الرحمن يقول‏:‏ إن ابن عباس كان يقول في هذه الآية‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ‏}‏ فأما العذاب من فوقكم، فأئمة السوء ‏{‏أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ فخدم السوء‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أمراءكم‏.‏ ‏{‏أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ عبيدكم وسفلتكم‏.‏

وحكى ابن أبي حاتم، عن أبي سنان وعمير بن هانئ، نحو ذلك‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ وهذا القول وإن كان له وجه صحيح، لكن الأول أظهر وأقوى‏.‏

وهو كما قال ابن جرير، رحمه الله، ويشهد له بالصحة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ‏[‏وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏]‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16 -18‏]‏، وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ليكونن في هذه الأمة قَذْفٌ وخَسْفٌ ومَسْخٌ‏"‏ وذلك مذكور مع نظائره في أمارات الساعة وأشراطها وظهور الآيات قبل يوم القيامة، وستأتي في موضعها إن شاء الله تعالى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا‏}‏ أي‏:‏ يجعلكم ملتبسين شيعا فرقا متخالفين‏.‏ قال الوالبي، عن ابن عباس‏:‏ يعني‏:‏ الأهواء وكذا قال مجاهد وغير واحد‏.‏

وقد ورد في الحديث المروي من طرق عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ قال ابن عباس وغير واحد‏:‏ يعني يسلط بعضكم على بعض بالعذاب والقتل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ‏}‏ أي‏:‏ نبينها ونوضحها ونُقِرُّهَا ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ‏}‏ أي‏:‏ يفهمون ويتدبرون عن الله آياته وحججه وبراهينه‏.‏

قال زيد بن أسلم‏:‏ لما نزلت ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ‏[‏أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏]‏‏}‏ الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رِقاب بعض بالسيوف‏.‏ قالوا‏:‏ ونحن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ فقال بعض الناس‏:‏ لا يكون هذا أبدا، أن يقتل بعضنا بعضا ونحن مسلمون، فنزلت‏:‏ ‏{‏انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ رواه ابن أبي حاتم وابن جرير

تفسير الآيات رقم ‏[‏66 - 69‏]‏

‏{‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَّبَ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ بالقرآن الذي جئتهم به، والهدى والبيان‏.‏ ‏{‏قَوْمُكَ‏}‏ يعني‏:‏ قريشا ‏{‏وَهُوَ الْحَقُّ‏}‏ أي‏:‏ الذي ليس وراءه حق ‏{‏قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ‏}‏ أي‏:‏ لست عليكم بحفيظ، ولست بموكل بكم، كقوله ‏{‏وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏ أي‏:‏ إنما علي البلاغ، وعليكم السمع والطاعة، فمن اتبعني، سعد في الدنيا والآخرة، ومن خالفني، فقد شقي في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ‏}‏ قال ابن عباس وغير واحد‏:‏ أي لكل نبأ حقيقة، أي‏:‏ لكل خبر وقوع، ولو بعد حين، كما قال‏:‏ ‏{‏وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 88‏]‏، وقال ‏{‏لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وهذا تهديد ووعيد أكيد؛ ولهذا قال بعده‏:‏ ‏{‏وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا‏}‏ أي‏:‏ بالتكذيب والاستهزاء ‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏ أي‏:‏ حتى يأخذوا في كلام آخر غير ما كانوا فيه من التكذيب، ‏{‏وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ‏}‏ والمراد بهذا كلّ فرد، فرد من آحاد الأمة، ألا يجلس مع المكذبين الذين يحرفون آيات الله ويضعونها على غير مواضعها، فإن جلس أحد معهم ناسيًا ‏{‏فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى‏}‏ بعد التذكر ‏{‏مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ ولهذا ورد في الحديث‏:‏ ‏"‏رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه‏"‏

وقال السُّدِّي، عن أبي مالك وسعيد بن جُبَيْر في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ‏}‏ قال‏:‏ إن نسيت فذكرت، فلا تجلس معهم‏.‏ وكذا قال مقاتل بن حيان‏.‏

وهذه الآية هي المشار إليها في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 140‏]‏ أي‏:‏ إنكم إذا جلستم معهم وأقررتموهم على ذلك، فقد ساويتموهم في الذي هم فيه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ أي‏:‏ إذا تجنبوهم فلم يجلسوا معهم في ذلك، فقد برئوا من عهدتهم، وتخلصوا من إثمهم‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السُّدِّي، عن أبي مالك وسعيد بن جُبَيْر، قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ قال‏:‏ ما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك، أي‏:‏ إذا تجنبتهم وأعرضت عنهم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل معناه‏:‏ وإن جلسوا معهم، فليس عليهم من حسابهم من شيء‏.‏ وزعموا أن هذا منسوخ بآية النساء المدنية، وهي قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 140‏]‏‏.‏ قاله مجاهد، والسُّدِّي، وابن جُرَيْج، وغيرهم‏.‏ وعلى قولهم، يكون قوله‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ أي‏:‏ ولكن أمرناكم بالإعراض عنهم حينئذ تذكيرا لهم عما هم فيه؛ لعلهم يتقون ذلك، ولا يعودون إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70 - 73‏]‏

‏{‏وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا‏}‏ أي‏:‏ دعهم وأعرض عنهم وأمهلهم قليلا فإنهم صائرون إلى عذاب عظيم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَذَكِّرْ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ وذكر الناس بهذا القرآن، وحذرهم نقمة الله وعذابه الأليم يوم القيامة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ أي‏:‏ لئلا تبسل‏.‏ قال الضحاك عن ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمة، والحسن، والسُّدِّي‏:‏ تبسل‏:‏ تُسْلَم‏.‏

وقال الوالبي، عن ابن عباس‏:‏ تفتضح‏.‏ وقال قتادة‏:‏ تُحْبَس‏.‏ وقال مُرَّة وابن زيد تُؤاخذ‏.‏ وقال الكلبيي‏:‏ تُجَازَي وكل هذه العبارات متقاربة في المعنى، وحاصلها الإسلام للهلكة، والحبس عن الخير، والارتهان عن درك المطلوب، كما قال‏:‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 38، 39‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ‏}‏ أي‏:‏ لا قريب ولا أحد يشفع فيها، كما قال‏:‏ ‏{‏مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 254‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا‏}‏ أي‏:‏ ولو بذلت كلّ مبذول ما قبل منها كما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا ‏[‏وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ‏]‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 91‏]‏، وهكذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ‏}‏ ‏{‏قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ‏}‏ قال السُّدِّي‏:‏ قال المشركون للمؤمنين‏:‏ اتبعوا سبيلنا، واتركوا دين محمد، فأنزل الله، عَزَّ وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا‏}‏ أي‏:‏ في الكفر ‏{‏بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ‏}‏ فيكون مثلُنا مثل الذي ‏{‏اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ ‏[‏حَيْرَانَ‏]‏‏}‏ يقول‏:‏ مثلكم، إن كفرتم بعد الإيمان، كمثل رجل كان مع قوم على الطريق، فضل الطريق، فحيرته الشياطين، واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون‏:‏ ‏"‏ائتنا فَإنَّا على الطريق‏"‏، فأبى أن يأتيهم‏.‏ فذلك مثل من يتبعهم بعد المعرفة بمحمد صلى الله عليه وسلم ومحمد هو الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الإسلام‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ‏}‏ أضلته في الأرض، يعني‏:‏ استهوته مثل قوله‏:‏ ‏{‏تَهْوِي إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا‏}‏ الآية‏.‏ هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها، والدعاة الذين يدعون إلى الله، عَزَّ وجل، كمثل رجل ضل عن طريق تائها ضالا إذ ناداه مناد‏:‏ ‏"‏يا فلان بن فلان، هلم إلى الطريق‏"‏، وله أصحاب يدعونه‏:‏ ‏"‏يا فلان، هلم إلى الطريق‏"‏، فإن اتبع الداعي الأول، انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى، اهتدى إلى الطريق‏.‏ وهذه الداعية التي تدعو في البرية من الغيلان، يقول‏:‏ مثل من يعبد هذه الآلهة من دون الله، فإنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت، فيستقبل الهلكة والندامة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ‏}‏ هم ‏"‏الغيلان‏"‏، يدعونه باسمه واسم أبيه وجده، فيتبعها وهو يرى أنه في شيء، فيصبح وقد ألقته في هلكة، وربما أكلته -أو تلقيه في مضلة من الأرض، يهلك فيها عطشا، فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله، عَزَّ وجل‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ‏}‏ قال‏:‏ رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق، وذلك مثل من يضل بعد أن هدي‏.‏

وقال العَوْفي، عن ابن عباس، قوله‏:‏ ‏{‏كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ‏}‏ هو الذي لا يستجيب لهدى الله، وهو رجل أطاع الشيطان، وعمل في الأرض بالمعصية، وجار عن الحق وضل عنه، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى، ويزعمون أن الذي يأمرونه به هدى، يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس، يقول ‏[‏الله‏]‏ ‏{‏إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى‏}‏ والضلال ما يدعو إليه الجن‏.‏ رواه ابن جرير، ثم قال‏:‏ وهذا يقتضي أن أصحابه يدعونه إلى الضلال، ويزعمون أنه هدى‏.‏ قالت‏:‏ وهذا خلاف ظاهر الآية؛ فإن الله أخبر أن أصحابه يدعونه إلى الهدى، فغير جائز أن يكون ضلالا وقد أخبر الله أنه هدى‏.‏

وهو كما قال ابن جرير، وكان سياق الآية يقتضي أن هذا الذي استهوته الشياطين في الأرض حيران، وهو منصوب على الحال، أي‏:‏ في حال حيرته وضلاله وجهله وجه المحجة، وله أصحاب على المحجة سائرون، فجعلوا يدعونه إليهم وإلى الذهاب معهم على الطريقة المثلى‏.‏ وتقدير الكلام‏:‏ فيأبى عليهم ولا يلتفت إليهم، ولو شاء الله لهداه، ولرد به إلى الطريق؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى‏}‏

كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 37‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 37‏]‏، وقوله ‏{‏وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ نخلص له العباد وحده لا شريك له‏.‏

‏{‏وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ‏}‏ أي‏:‏ وأمرنا بإقامة الصلاة وبتقواه في جميع الأحوال، ‏{‏وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة‏.‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ بالعدل، فهو خالقهما ومالكهما، والمدبر لهما ولمن فيهما‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة، الذي يقول الله‏:‏ ‏{‏كُنْ‏}‏ فيكون عن أمره كلمح البصر، أو هو أقرب‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ‏}‏ منصوب إما على العطف على قوله‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوهُ‏}‏ وتقديره‏:‏ واتقوا يوم يقول كن فيكون، وإما على قوله‏:‏ ‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ‏}‏ أي‏:‏ وخلق يوم يقول كن فيكون‏.‏ فذكر بدء الخلق وإعادته، وهذا مناسب‏.‏ وإما على إضمار فعل تقديره‏:‏ واذكر يوم يقول كن فيكون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ‏}‏ جملتان محلهما الجر، على أنهما صفتان لرب العالمين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ‏}‏ يحتمل أن يكون بدلا من قوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏{‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ‏}‏ ويحتمل أن يكون ظرفًا لقوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ‏}‏ كقوله ‏{‏لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16‏]‏، وكقوله ‏{‏الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 26‏]‏، وما أشبه ذلك‏.‏

واختلف المفسرون في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ‏}‏ فقال بعضهم‏:‏ المراد بالصور هاهنا جمع ‏"‏صورة‏"‏ أي‏:‏ يوم ينفخ فيها فتحيا‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ كما يقال سور -لسور البلد هو جمع سورة‏.‏ والصحيح أن المراد بالصور‏:‏ ‏"‏القَرْن‏"‏ الذي ينفخ فيه إسرافيل، عليه السلام، قال ابن جرير‏:‏ والصواب عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إن إسرافيل قد التقم الصور وحنى جبهته، ينتظر متى يُؤمَر فينفخ‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل، حدثنا سليمان التيمي، عن أسلم العِجْلي، عن بِشْر بن شَغَاف، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ قال أعرابي‏:‏ يا رسول الله، ما الصور‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قرن ينفخ فيه‏.‏

وقد روينا حديث الصور بطوله، من طريق الحافظ أبي القاسم الطبراني، في كتابه ‏"‏الطّوالات‏"‏ قال‏:‏ حدثنا أحمد بن الحسن المصري الأيْلي، حدثنا أبو عاصم النبيل، حدثنا إسماعيل بن رافع، عن محمد بن زياد، عن محمد بن كعب القُرَظي، عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال‏:‏ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في طائفة من أصحابه، فقال‏:‏ ‏"‏إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض، خلق الصور فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه، شاخصًا بصرَه إلى العرش، ينتظر متى يؤمر‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، وما الصور‏؟‏ قال ‏"‏القَرْن‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ كيف هو‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏عظيم، والذي بعثني بالحق، إن عظم دارة فيه كعرض السموات والأرض‏.‏ ينفخ فيه ثلاث نفخات‏:‏ النفخة الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين‏.‏ يأمر الله تعالى إسرافيل بالنفخة الأولى، فيقول‏.‏ انفخ، فينفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السموات ‏[‏وأهل‏]‏ الأرض إلا من شاء الله‏.‏ ويأمره فيديمها ويطيلها ولا يفتر، وهي كقول الله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 15‏]‏، فيسير الله الجبال فتمر مر السحاب، فتكون سرابًا‏"‏‏.‏

ثم ترتج الأرض بأهلها رجة فتكون كالسفينة المرمية في البحر، تضربها الأمواج، تكفأ بأهلها كالقنديل المعلق بالعرش، ترجرجه الرياح، وهي التي يقول ‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 6 -8‏]‏، فَيَميدُ الناس على ظهرها، وتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة من الفزع، حتى تأتي الأقطار، فتأتيها الملائكة فتضرب وجوهها، فترجع، ويولي الناس مدبرين ما لهم من أمْر الله من عاصم، ينادي بعضهم بعضا، وهو الذي يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ التَّنَادِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 32‏]‏‏.‏

فبينما هم على ذلك، إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر، فرأوا أمرا عظيما لم يروا مثله، وأخذهم لذلك من الكرب والهول ما الله به عليم، ثم نظروا إلى السماء، فإذا هي كالمُهْل، ثم انشقت فانتشرت نجومها، وانخسف شمسها وقمرها‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الأموات لا يعلمون بشيء من ذلك‏"‏ قال أبو هريرة‏:‏ يا رسول الله، من استثنى الله، عَزَّ وجل، حين يقول‏:‏ ‏{‏فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏، قال‏:‏ ‏"‏أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، وهم أحياء عند الله يرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم، وآمنهم منه، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه‏"‏، قال‏:‏ وهو الذي يقول الله، عَزَّ وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 1، 2‏]‏،فيكونون في ذلك العذاب ما شاء الله، إلا أنه يطول‏.‏

ثم يأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق، فينفخ نفخة الصعق، فيصعق أهل السموات ‏[‏وأهل‏]‏ الأرض إلا من شاء الله، فإذا هم قد خمدوا، وجاء ملك الموت إلى الجبار، عَزَّ وجل، فيقول‏:‏ يا رب، قد مات أهل السموات والأرض إلا من شئت‏.‏ فيقول الله -وهو أعلم بمن بقي -‏:‏ فمن بقي‏؟‏ فيقول‏:‏ يا رب، بقيتَ أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت حملة العرش، وبقي جبريل وميكائيل، وبقيت أنا‏.‏ فيقول الله، عَزَّ وجل‏:‏ ليمت جبريل وميكائيل‏.‏ فيُنْطِقُ الله العرش فيقول‏:‏ يا رب، يموت جبريل وميكائيل‏!‏‏!‏ فيقول‏:‏ اسكت، فإني كتبت الموت على كل من كان تحت عرشي، فيموتان‏.‏ ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار ‏[‏عَزَّ وجل‏]‏ فيقول يا رب، قد مات جبريل وميكائيل‏.‏ فيقول الله ‏[‏عَزَّ وجل‏]‏ -وهو أعلم بمن بقي -‏:‏ فمن تبقي‏؟‏ فيقول‏:‏ بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت حملة عرشك، وبقيت أنا‏.‏ فيقول الله، ‏[‏عَزَّ وجل‏]‏ ليمت حملة عَرْشي‏.‏ فيموتوا، ويأمر الله العرش‏.‏ فيقبض الصور من إسرافيل، ثم يأتي ملك الموت، فيقول‏:‏ يا رب، قد مات حملة عرشك‏.‏ فيقول الله -وهو أعلم بمن بقي -‏:‏‏:‏ فمن بقي‏؟‏ فيقول‏:‏ يا رب، بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت أنا‏.‏ فيقول الله ‏[‏عَزَّ وجل‏]‏ أنت خَلْق من خلقي، خلقتك لما رأيت، فمِت‏.‏ فيموت‏.‏ فإذا لم يبق إلا الله الواحد القهار الأحد ‏[‏الصمد‏]‏ الذي لم يلد ولم يولد، كان آخرًا كما كان أولا طوى السموات والأرض طي السجل للكتب ثم دحاهما ثم يلقفهما ثلاث مرات، ثم يقول‏:‏ أنا الجبار، أنا الجبار، أنا الجبار ثلاثًا‏.‏ ثم هتف بصوته‏:‏ ‏{‏لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ‏}‏ ثلاث مرات، فلا يجيبه أحد، ثم يقول لنفسه‏:‏ ‏{‏لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16‏]‏، يقول الله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ‏}‏ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 48‏]‏، فيبسطهما ويسطحهما، ثم يمدهما مد الأديم العكاظي ‏{‏لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 107‏]‏‏.‏

ثم يزجر الله الخلق زجرة، فإذا هم في هذه الأرض المبدلة مثل ما كانوا فيها من الأولى، من كان في بطنها كان في بطنها، ومن كان على ظهرها كان على ظهرها، ثم ينزل الله ‏[‏عَزَّ وجل‏]‏ عليهم ماء من تحت العرش، ثم يأمر الله السماء أن تمطر، فتمطر أربعين يومًا، حتى يكون الماء فوقهم اثني عشر ذراعا، ثم يأمر الله الأجساد أن تنبت فتنبت كنبات الطراثيث -أو‏:‏ كنبات البقل -حتى إذا تكاملت أجسادهم فكانت كما كانت، قال الله، عَزَّ وجل‏:‏ ليَحْيَا حملةُ عرشي، فيحيون‏.‏ ويأمر الله إسرافيل فيأخذ الصور، فيضعه على فيه، ثم يقول‏:‏ ليحيا جبريل وميكائيل، فيحيان، ثم يدعو الله الأرواح فيؤتى بها تتوهج أرواح المسلمين نورا، وأرواح الكافرين ظلمة، فيقبضها جميعا ثم يلقيها في الصور‏.‏

ثم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث، فينفخ نفخة البعث، فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض، فيقول ‏[‏الله‏]‏ وعزتي وجلالي، ليرجعن كل روح إلى جسده، فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد، فتدخل في الخياشيم، ثم تمشي في الأجساد كما يمشي السم في اللديغ، ثم تَنْشَقّ الأرض عنكم وأنا أول من تَنْشَقّ الأرض عنه، فتخرجون سراعًا إلى ربكم تنسلون ‏{‏مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 8‏]‏ حَفَاة عُرَاة ‏[‏غُلْفًا‏]‏ غُرْلا فتقفون موقفًا واحدًا مقداره سبعون عامًا، لا يُنْظَر إليكم ولا يقضى بينكم، فتبكون حتى تنقطع الدموع، ثم تدمعون دمًا وتَعْرَقون حتى يلجمكم العرق، أو يبلغ الأذقان، وتقولون من يشفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا‏؟‏ فتقولون من أحق بذلك من أبيكم آدم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلمه قبلا‏؟‏ فيأتون آدم، فيطلبون ذلك إليه فيأبى، ويقول‏:‏ ما أنا بصاحب ذلك‏.‏ فيستقرءون الأنبياء نبيا نبيا، كلما جاءوا نبيا، أبى عليهم‏"‏‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏حتى يأتوني، فأنطلق إلى الفحص فأَخر ساجدًا‏"‏ قال أبو هريرة‏:‏ يا رسول الله، وما الفَحْص‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قدام العرش حتى يبعث الله إلي ملكا فيأخذ بعضدي، ويرفعني، فيقول لي‏:‏ يا محمد فأقول‏:‏ نعم يا رب‏.‏ فيقول الله، عَزَّ وجل‏:‏ ما شأنك‏؟‏ وهو أعلم، فأقول‏:‏ يا رب، وعدتني الشفاعة فشَفعني في خلقك، فاقض بينهم‏.‏ قال ‏[‏الله‏]‏ قد شفعتك، أنا آتيكم أقضي بينكم‏"‏‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فأرجع فأقف مع الناس، فبينما نحن وقوف، إذ سمعنا حسا من السماء شديدا، فهالنا فنزل أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض، أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم، وقلنا لهم‏:‏ أفيكم ربنا‏؟‏ قالوا‏:‏ لا وهو آت‏.‏

ثم ينزل ‏[‏من‏]‏ أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة، وبمثلي من فيها من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض، أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم، وقلنا لهم‏:‏ أفيكم ربنا‏؟‏ فيقولون‏:‏ لا وهو آت‏.‏

ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف، حتى ينزل الجبار، عَزَّ وجل، في ظُلل من الغمام والملائكة، فيحمل عرشه يومئذ ثمانية -وهم اليوم أربعة -أقدامهم في تخوم الأرض السفلى، والأرض والسموات إلى حُجْزَتَهم والعرش على مناكبهم، لهم زجل في تسبيحهم، يقولون‏:‏ سبحان ذي العرش والجبروت، سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سُبُّوح قدوس قدوس قدوس، سبحان ربنا الأعلى، رب الملائكة والروح، سبحان ربنا الأعلى، الذي يميت الخلائق ولا يموت، فيضع الله كرسيه حيث يشاء من أرضه، ثم يهتف بصوته يا معشر الجن والإنس، إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا، أسمع قولكم وأبصر أعمالكم، فأنصتوا إلي، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏.‏

ثم يأمر الله جهنم، فيخرج منها عنق ‏[‏مظلم‏]‏ ساطع، ثم يقول‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ -أو‏:‏ بها ‏[‏النبأ‏:‏ 40‏]‏

ثم يقضي الله ‏[‏عَزَّ وجل‏]‏ بين العباد، فكان أول ما يقضي فيه الدماء، ويأتي كلّ قتيل في سبيل الله،عَزَّ وجل، ويأمر الله ‏[‏عَزَّ وجل‏]‏ كلّ قتيل فيحمل رأسه تَشْخُب أو داجه يقول‏:‏ يا رب، فيم قتلني هذا‏؟‏ فيقول -وهو أعلم -‏:‏ فيم قتلتهم‏؟‏ فيقول‏:‏ قتلتهم لتكون العزة لك‏.‏ فيقول الله له‏:‏ صدقت‏.‏ فيجعل الله وجهه مثل نور الشمس، ثم تمر به الملائكة إلى الجنة‏.‏

ويأتي كل من قُتل على غير ذلك يحمل رأسه وتشخب أوداجه، فيقول‏:‏ يا رب، ‏[‏فيم‏]‏ قتلني هذا‏؟‏ فيقول -وهو أعلم -‏:‏ لم قتلتهم‏؟‏ فيقول‏:‏ يا رب، قتلتهم لتكون العزة لك ولي‏.‏ فيقول‏:‏ تعست‏.‏ ثم لا تبقى نفس قتلها إلا قتل بها، ولا مظلمة ظلمها إلا أخذ بها، وكان في مشيئة الله إن شاء عذبه، وإن شاء رحمه‏.‏

ثم يقضي الله تعالى بين من بقي من خلقه حتى لا تبقى مظلمة لأحد عند أحد إلا أخذها ‏[‏الله‏]‏ للمظلوم من الظالم، حتى إنه ليكلف شائب اللبن بالماء ثم يبيعه أن يخلص اللبن من الماء‏.‏

فإذا فرغ الله من ذلك، ناد مناد يسمع الخلائق كلهم‏:‏ ألا ليلحق كل قوم بآلهتهم وما كانوا يعبدون من دون الله‏.‏ فلا يبقى أحد عبد من دون الله إلا مثلت له آلهته بين يديه، ويجعل يومئذ ملك من الملائكة على صورة عُزَير، ويجعل ملك من الملائكة على صورة عيسى ابن مريم‏.‏ ثم يتبع هذا اليهود وهذا النصارى، ثم قادتهم آلهتهم إلى النار، وهو الذي يقول ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 99‏]‏‏.‏

فإذا لم يبق إلا المؤمنون فيهم المنافقون، جاءهم الله فيما شاء من هيئته، فقال‏:‏ يا أيها الناس، ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون‏.‏ فيقولون‏:‏ والله ما لنا إله إلا الله، وما كنا نعبد غيره، فينصرف عنهم، وهو الله الذي يأتيهم فيمكث ما شاء الله أن يمكث، ثم يأتيهم فيقول‏:‏ يا أيها الناس، ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون‏.‏ فيقولون‏:‏ والله ما لنا إله إلا الله وما كنا نعبد غيره، فيكشف لهم عن ساقه، ويتجلى لهم من عظمته ما يعرفون أنه ربهم، فيخرون سجدا على وجوههم، ويخر كل منافق على قفاه، ويجعل الله أصلابهم كصياصي البقر‏.‏ ثم يأذن الله لهم فيرفعون، ويضرب الله الصراط بين ظهراني جهنم كحد الشفرة -أو‏:‏ كحد السيف -عليه كلاليب وخطاطيف وحسك كحسك السعدان، دون جسر دحض مزلة، فيمرون كطرف العين، أو كلمح البرق، أو كمر الريح، أو كجياد الخيل، أو كجياد الركاب، أو كجياد الرجال‏.‏ فناج سالم، وناج مخدوش، ومكردس على وجهه في جهنم‏.‏

فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة، قالوا‏:‏ من يشفع لنا إلى ربنا فندخل الجنة‏؟‏ فيقولون‏:‏ من أحق بذلك من أبيكم آدم، عليه السلام، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلمه قبلا‏؟‏ فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه، فيذكر ذنبا ويقول‏:‏ ما أنا بصاحب ذلك، ولكن عليكم بنوح، فإنه أول رسل الله‏.‏ فيؤتى نوح فيُطْلَب ذلك إليه، فيذكر ذنبا ويقول‏:‏ ما أنا بصاحب ذلك، ويقول عليكم بإبراهيم، فإن الله اتخذه خليلا‏.‏ فيؤتى إبراهيم، فيُطْلَب ذلك إليه، فيذكر ذنبا ويقول‏:‏ ما أنا بصاحب ذلك، ويقول‏:‏ عليكم بموسى فإن الله قربه نَجيّا، وكلمه وأنزل عليه التوراة‏.‏ فيؤتى موسى، فيطلب ذلك إليه، فيذكر ذنبا ويقول‏:‏ لست بصاحب ذلك، ولكن عليكم بروح الله وكلمته عيسى ابن مريم‏.‏

فيؤتى عيسى ابن مريم، فيطلب ذلك إليه، فيقول‏:‏ ما أنا بصاحبكم، ولكن عليكم بمحمد‏"‏‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فيأتوني -ولي عند ربي ثلاث شفاعات ‏[‏وعدنهن‏]‏ -فأنطلق فآتي الجنة، فآخذ بحلَقَة الباب، فأستفتح فيفتح لي، فأحيىّ ويرحب بي‏.‏ فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي خررت ساجدا، فيأذن الله لي من حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه، ثم يقول‏:‏ ارفع رأسك يا محمد، واشفع تشفع، وسل تعطه‏.‏ فإذا رفعت رأسي يقول الله -وهو أعلم -‏:‏ ما شأنك‏؟‏ فأقول‏:‏ يا رب، وعدتني الشفاعة، فشفعني في أهل الجنة فيدخلون الجنة، فيقول الله‏:‏ قد شفعتك وقد أذنتلهم في دخول الجنة‏"‏‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم، فيدخل كل رجل منهم على اثنتين وسبعين زوجة، سبعين مما ينشئ الله، عَزَّ وجل، وثنتين آدميتين من ولد آدم، لهما فضل على من أنشأ الله، لعبادتهما الله في الدنيا‏.‏ فيدخل على الأولى في غرفة من ياقوتة، على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ، عليها سبعون زوجا من سندس وإستبرق، ثم إنه يضع يده بين كتفيها، ثم ينظر إلى يده من صدرها، ومن وراء ثيابها وجلدها ولحمها، وإنه لينظر إلى مُخّ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت، كبدها له مرآة، وكبده لها مرآة‏.‏ فبينا هو عندها لا يملها ولا تمله، ما يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء، ما يَفْترُ ذَكَرَهُ، وما تشتكي قبلها‏.‏ فبينا هو كذلك إذ نودي‏:‏ إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل، إلا أنه لا مَني ولا مَنِية إلا أن لك أزواجا غيرها‏.‏ فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة، كلما أتى واحدة ‏[‏له‏]‏ قالت‏:‏ له والله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك، ولا في الجنة شيء أحب إلي منك‏.‏

وإذا وقع أهل النار في النار، وقع فيها خلق من خلق ربك أوبقتهم أعمالهم، فمنهم من تأخذ النار قدميه لا تجاوز ذلك، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه، ومنهم من تأخذ جسده كله، إلا وجهه حرم الله صورته عليها‏"‏‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فأقول يا رب، من وقع في النار من أمتي‏.‏ فيقول‏:‏ أخرجوا من عرفتم، فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد‏.‏ ثم يأذن الله في الشفاعة فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع، فيقول الله‏:‏ أخرجوا من وجدتم في قلبه زنة الدينار إيمانا‏.‏ فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد، ثم يشفع الله فيقول‏:‏ أخرجوا من ‏[‏وجدتم‏]‏ في قلبه إيمانا ثلثي دينار‏.‏ ثم يقول‏:‏ ثلث دينار‏.‏ ثم يقول‏:‏ ربع دينار‏.‏ ثم يقول‏:‏ قيراطا‏.‏ ثم يقول‏:‏ حبة من خردل‏.‏ فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد، وحتى لا يبقى في النار من عمل لله خيرا قط، ولا يبقى أحد له شفاعة إلا شفع، حتى إن إبليس ليتطاول مما يرى من رحمة الله رجاء أن يشفع له، ثم يقول‏:‏ بقيت وأنا أرحم الراحمين‏.‏ فيدخل يده في جهنم فيخرج منها ما لا يحصيه غيره، كأنهم حُمَم، فيلقون على نهر يقال له‏:‏ نهر الحيوان، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ما يلقى الشمس منها أخيضر، وما يلي الظل منها أصيفر، فينبتون كنبات الطراثيث، حتى يكونوا أمثال الذر، مكتوب في رقابهم‏:‏ ‏"‏الجُهَنَّمِيُّون عتقاء الرحمن‏"‏، يعرفهم أهل الجنة بذلك الكتاب، ما عملوا خيرًا لله قط، فيمكثون في الجنة ما شاء الله، وذلك الكتاب في رقابهم، ثم يقولون‏:‏ ربنا امح عنا هذا الكتاب، فيمحوه الله، عَزَّ وجل، عنهم‏"‏‏.‏ هذا حديث ‏[‏مشهور‏]‏ وهو غريب جدا، ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة وفي وقال ابن عدي‏:‏ ‏"‏أحاديثه كلها مما فيه نظر‏"‏‏.‏

بعض ألفاظه نكارة‏.‏ تفرد به إسماعيل بن رافع قاص أهل المدينة، وقد اختلف فيه، فمنهم من وثقه، ومنهم من ضعفه، ونص على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة، كأحمد بن حنبل، وأبي حاتم الرازي، وعمرو بن علي الفَلاس، ومنهم من قال فيه‏:‏ هو متروك‏.‏ وقال ابن عدي‏:‏ أحاديثه كلها فيها نظر إلا أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء‏.‏

قلت‏:‏ وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على وجوه كثيرة، قد أفردتها في جزء على حدة‏.‏ وأما سياقه، فغريب جدًا، ويقال‏:‏ إنه جمعه من أحاديث كثيرة، وجعله سياقا واحدا، فأنكر عليه بسبب ذلك‏.‏ وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول‏:‏ إنه رأى للوليد بن مسلم مصنفا قد جمع فيه كل الشواهد لبعض مفردات هذا الحديث، فالله أعلم‏.‏